هل كان الموت عقوبة إلهية، أم مجرد نتيجة طبيعية لخطية آدم وحواء؟
وأكلهما من الشجرة المحرَّمة؟
يردد البعض أحيانا مقولة إن الموت في قصة أبوينا الأولين لم يكن عقوبة، بل كان نتيجة طبيعية وتلقائية للأكل من ثمرة شجرة معينة ذات خصائص معينة!!. ويذهبون في ذلك إلى تشبيهات غريبة، فيقولون تارة إنه كمثل أب يحذر ابنه من لمس سلك عارٍ يسري به تيار الكهرباء حتى لا يصعقه التيار الكهربائي، وتارة أخرى مثل أب يحذر ابنه من الاقتراب من لهب النار لئلا تحرقه.. والحقيقة هي أن ذلك التعليم الغريب يتنافى مع المنطق، ويتنافى مع نصوص الكتاب المقدس، ويتنافى مع تسليم الآباء، والأخطر من ذلك، مما قد لا يعلمه مرددو هذا الكلام بحسن نية، أن مخترعي هذا التعليم يتخذونه مدخلا لهدم العقيدة الأساسية للمسيحية ’عقيدة الفداء‘ وإفراغها من مضمونها، فيصلون ببدعتهم أو بهرطقتهم إلى استنتاج أغرب وهو أن ذبيحة المسيح على الصليب لم تكن استيفاء لعقوبة ما، طالما لا توجد عقوبة أصلا من وجهة نظرهم!!..
فبأي منطق عقلي يمكن أن نقارن الله الكلي الحكمة والحاضر في كل مكان وزمان، بأبٍ من البشر لا يتخذ الإجراءات الوقائية اللازمة لحماية ابنه من الموت صعقا بالكهرباء مكتفيا بالتحذير ووصف خصائص الكهرباء ’المميتة‘، ليصعق التيار ذلك الابن في غفلة من أبيه أو بينما الأب يراقب ذلك دون أن يحرك ساكنا، وكأن لسان حاله يقول لذلك الابن التعيس: ها أنت قد حصلت على الموت الذي حدثتك عنه!!؟! وبأي منطق نفهم الإجراءات التالية التي أوقعها الله على آدم وحواء بعد السقوط، من ’طرد‘ من الجنة، إلى شقاء في أكل لقمة العيش، إلى تعب في ولادة البنين، مادام مبدأ العقوبة ليس واردا، حسبما يقول أصحاب هذه البدعة؟!
(أولا): الموت عقوبة:
عندما قال الله لأبينا آدم: ”وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ“ (تكوين 2: 17)، لم يكن ذلك مجرد تحذير من الوقوع في الخطية بمخالفة الوصية، بل كان أيضا توضيحا للعقوبة المقررة في حالة كسر الوصية؛ القانون جنبا إلى جنب مع عقوبة كسر القانون.. كان ’الموت‘ هو ’العقوبة‘ لسقطة البشرية الأولى، وقد خضع الكل له.. مات آدم وحواء، ومات نسلهما، وسيموت نسل الذي يولد فيما بعد، ويظل الموت إلى أن ينتهي هذا العالم!.. ويقول الكتاب: ”آخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ هُوَ الْمَوْتُ“، ويحدث هذا في نهاية العالم حينما تتغير طبيعتنا في القيامة العامة ونلبس الحياة، أو كما يقول الرسول: ”هَذَا الْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ“، وعندئذ فقط نقول: ”أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟!“ (كورنثوس الأولى 15: 26، 53، 55).. أما قبل هذه القيامة فتظل شوكة الموت في أجسادنا جميعا.
لم يسمح الله أن يموت أبوانا في التو واللحظة.. وإلا تكون البشرية كلها قد انتهت وزالت، ويكون الشيطان قد انتصر في المعركة انتصارا ساحقا، ولا يكون هناك خلاص.. الخلاص الذي أعده الرب الحنَّان لآدم وبنيه، وأعطى وعدا به حتى مع العقاب!.. لذلك تأجل ذلك الموت إلى حين، ريثما تلد حواء بنين وتربيهم، لأنه فيما بعد سيأتي ’نسل المرأة‘ الذي يسحق رأس الحية (تكوين 3: 15).. ومع تأجيل عقوبة الموت الجسدي هذه، كانت هناك أنواع أخرى من الموت، تم بعضها في التو واللحظة؛ فكان هناك الموت الروحي، إذ أن الخطية تفصل الإنسان عن الله، لأنه لا شركة للظلمة مع النور، وقد مات آدم وحواء هذا الموت الروحي يوم أكلا من الشجرة! (انظر: أفسس 2: 1 ، 5: 14 ؛ تيموثاوس الأولى 5: 6 ؛ رؤيا 3: 1).. وكان هناك أيضا الموت الأدبي، إذ ضاعت كرامة الإنسان الأول، وفقد الحالة الفائقة للطبيعة التي خُلق عليها، وأبلغ تعبير على ذلك، أن الله ’طرده من الجنة‘ (تكوين 3: 24)، وكلمة ’طرد‘ تعني الكثير من جهة الموتين الأدبي والروحي (وإن كان الله قد ظل يعمل عملية إقامة الأموات بالنسبة إلى آدم وبنيه، لكي يرجعهم إلى رتبتهم الأولى ولكي تتم مصالحة بينهم وبينه، إلا أن الأمر كان يتوقف على مدى الاستجابة الفردية لعمل النعمة في كل إنسان على حدة).
إلاَّ أن أخطر ما في ’حكم الموت‘ أو ’عقوبة الموت‘ كان الموت الأبدي.. وهو الذي خلصنا منه المسيح بالفداء، حين مات على الصليب عنا.. (ظل آدم وحواء وبنوهما جميعا، تحت حكم هذا الموت في كل العصور السابقة للفداء؛ فكان كل الذين يموتون، يذهبون إلى الهاوية أو الجحيم، وكان المؤمنون منهم الراقدون على رجاء يرددون مع داود النبي: ”لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ. لَنْ تَدَعَ تَقِيَّكَ يَرَى فَسَاداً“ مزمور 15: 10).
لقد وقع الإنسان تحت حكم الموت بكسره الوصية.. ولم تكن عقوبة الموت هي كل شيء، فقد كان للخطية نتائج أخرى.. حرمت الخطية الإنسان من الحياة، فرأينا ذلك الأمر الخطير الذي صدر من الله: ”فَطَرَدَ الإِنْسَانَ وَأَقَامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ“ (تكوين 3: 24).. فقد الإنسان الصورة الإلهية التي كان عليها في حالة البِرّ الأولى قبل السقوط في الخطية حين قال الله: ”نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا“.. فسدت الطبيعة البشرية بفقدانها نقاوتها الأولى فأصبح من السهل أن تخطئ.. ونتائج مؤلمة أخرى، فقد صرنا نسمع لأول مرة عن أمراض النفس من شهوة وخوف وخجل، كما حدث مع آدم وحواء، وحسد وغضب وقلق وفقدان السلام الداخلي مثلما نسمع في قصة قايين.. وتعب الجسد أيضا؛ فقد أصبح آدم يأكل خبزه بعرق جبينه، وأصبحت حواء بالوجع تلد أولادا..
(ثانيا): لماذا الوصية ولماذا العقوبة ولماذا الموت؟
كانت الوصية، ولا زالت، تكريما لشأن الإنسان، إذ تعلن حرية إرادته؛ فقد أراد الله أن يتعامل معه على مستوى فائق، فأعطاه الوصية لتكون طاعته لله ليست طاعة غريزية آلية تحكمها قوانين الطبيعة كسائر المخلوقات، وإنما تقوم هذه الطاعة على إنسانيته المقدسة وحبه الحق الخارج من أعماقه بكمال حريته، فالوصية ليست حرمانا للإنسان ولا كبتا له، وإنما هي طريق للتمتع بقدسية الإرادة الحرة.. وربما يتساءل البعض: ’ألم يكن الله عالما بأن الإنسان سيخالف الوصية، فلماذا أوجد أمامه هذا الشرك أصلا؟‘، والجواب أن الله يعلم بكل شيء، لكن علمه السابق لا يتناقض مع حكمته ومع مقاصده، ولا يعطل حرية الإنسان واختياره..
وربما أيضا يظن البعض أن جزاء العصيان ’موتا تموت‘ عقوبة صعبة للغاية ولا تتناسب مع الوصية بعدم الأكل من ثمرة شجرة معينة.. لكننا في ذلك يجب أن نلاحظ الآتي:
- العقوبة ليست بسبب نوع الوصية، إنما هي بسبب الفكر الداخلي الذي قابل محبة الله الفائقة ورعايته للإنسان بالجحود!
- بشاعة العقوبة تتناسب مع عطية الحرية الإنسانية وتقدير الله للإنسان..
- بشاعة العقوبة تبرز قوة الخلاص الذي يقدمه الله للإنسان ببذل الابن الوحيد الجنس..
- سقطت العقوبة بثقلها على الأرض وعلى الحيَّة، إلا أن الله لم يلعن آدمَ ولا حواء، فلعن الحية بسبب مخادعتها للإنسان، ولعن الأرض بسبب الساكن فيها.. لقد أبرز الله في محبته هنا أيضا مرارة الخطية لكنه لم يلعن الإنسان، بل أعطاه وعدا بالخلاص عندما خاطب الحية الملعونة قائلا: ”.. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ“ (تكوين 3: 15).. فنحن هنا إزاء عظمة محبة الله ورحمته جنبا إلى جنب مع عدله وقداسته!
لقد تكررت عبارة ’موتا تموت‘ في مواقف كثيرة أخرى بأسفار الكتاب، وكلها تحمل معنى العقوبة أو التهديد بالعقوبة، ولا يمكن أن يُفهم من أي منها أن الموت كان نتيجة تلقائية على طريقة سلك الكهرباء العريان! انظر: (تكوين 20: 7 ، 26: 11)، (صموئيل الأول 14: 39، 44 ؛ 22: 16)، (ملوك الأول 2: 37، 42، 46)، (ملوك الثاني 1: 16، 17)، (إرميا 26: 8)، (حزقيال 18: 13)..
(رابعا): وماذا استلمنا من الآباء؟
إلى الذين ينكرون مبدأ العقوبة استنادا لأقوال الآباء، هذه عينة من بعض أقوال القديس أثناسيوس الرسولي:
- ’.. استحقوا الموت الذي سبق تهديدهم به، ومن ذلك الحين لم يبقوا بعد في الصورة التي خُلقوا عليها، بل فسدوا حسبما أرادوا لأنفسهم‘
- ’كان أمرا مرعبا لو أن الله بعدما تكلم يصير كاذبا، إن كان بعد أن أصدر حكمه على الإنسان بأن يموت موتا إن تعدى الوصية، لا يموت، بل تبطل كلمة الله.. ولو كان الإنسان لم يمت بعد أن قال الله إننا نموت، لأصبح الله غير صادق‘.
- ’مطالب الله العادلة.. يجب أن يكون الله أمينا وصادقا من جهة حكم الموت الذي وضعه، لأنه كم يكون شنيعا جدا لو كان الله أبو الحق يظهر كاذبا من أجلنا ومن أجل نجاتنا؟.. التوبة لا تستطيع أن توفي مطلب الله العادل.. كان أمام كلمة الله أن يوفي مطلب الآب العادل المطالب به الجميع، فكان هو وحده الذي يليق بطبيعته أن يجدد خلقة كل شيء، وأن يتحمل الآلام عوضا عن الجميع..‘
- ’أخذ جسدا من جنسنا.. وجعله جسده بالذات.. وإذ كان الجميع تحت قصاص فساد الموت، فقد بذل جسده للموت عوضا عن الجميع‘
- ’مستحيل أن يتحمل الكلمة الموت لأنه غير مائت ولأنه ابن الآب، لهذا أخذ لنفسه جسدا قابلا للموت، حتى باتحاده بالكلمة الذي هو فوق الكل يكون جديرا أن يموت نيابة عن الكل.. وإذ قدَّم للموت ذلك الجسد الذي أخذه لنفسه كمحرقة وذبيحة خالية من كل شائبة، فقد رفع حكم الموت فورا عن جميع من ناب عنهم، إذ قدَّم عوضا عنهم جسدا مماثلا لأجسادهم‘
- ’ولأن كلمة الله متعال فوق الكل، فقد لاق به بطبيعة الحال أن يوفي الدَّيْن بموته‘
0 التعليقات:
إرسال تعليق